بقلم الدكتور منير السامرائي
إنها الغيبة ، فاكهة المجالس الشيطانية .. ذلك الوحش الضاري والعدو الصائل ، يتربص بالجلساء الدوائر ، عليه دائرة السوء .. ينقضّ على الحسنات فينهشها بأنيابه ليذرها قاعاً صفصفاً .. و يهجم على اللحوم البشرية فيفترسها ميتة كريهة ، ويسعى بالشر في المجتمع فيمزق نسيجه ويقطع علائقه وأوصاله ..
الغيبة : [ ذكرك أخاك بما يكره ] وفق التعريف النبوي المبين ، إنها ذكر العيب بظهر الغيب .. وقد نهى الاسلام – وهو ينظم العلاقات الانسانية ويرسي دعائم العدل بين الناس لتنقشع عنهم سحائب الشحناء والتباغض والتحاسد – عن كل سبب يفتك بالمجتمع ويهلكه .. ومنها داء الغيبة ، قال تعالى ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) ، وقال [ يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ] – حديث صحيح .
وفي رمضان ، وقد نادى المنادي – مذ أقبل – ( يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر اقصر ) ..فحري أن يكون التنافس على أشده ،إلا أننا نرى اليوم من بعض الصائمين عجبا !! من العجب حقا أن يصوم أحدهم عن الحلال ثم يفطر على الحرام ، وقد يتظاهر البعض بالتنزه عن ولوج أبواب الغيبة ، فإذا به يتسورها من كل باب ونافذة : بإشارة أو غمز أو لمز أو حركة أو تمثيل أو نظرة موبوءة ، تنال من الغائب وعرضه بالاحتقار أو الوصف الشائن .
الأنواع المسمومة
ومن الصور التي تندرج تحت مسمى الغيبة مما يجب الحذر من الوقوع فيها عند ذكر الغائب : [ قولك : الله يعافينا ، الله يتوب علينا ، نسأل الله السلامة .. ونـحو ذلك ] – كما يقول النووي رحمه الله .. [ ومنه من يخرج الغيبة في قالب التعجب ، فيقول : تعجبت من فلان كيف لا يعمل كيت وكيت !! .. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب الإغتمام ، فيقول : مسكين فلان غمّني ما جرى له.. ] – كما يقول إبن تيمية رحمه الله .
الغبن الفاحش
إن المغتاب يحكّم الآخرين في حسناته ، فهو حين يستطيل بلسانه عليهم يقدم حسناته هدية مجانية الى من تعرض لهم بالغيبة ، ليعود صفر اليدين من طاعات جَهِد فيها ساعات ، اظمأ نهاره وأسهر ليله وكفّ نفسه عن شهواتها ، فإذا بها يوم الحصاد هباء منثورا .. وإن ذلك لعمري الغبن الفاحش ، لا يُقدم عليه إلا جاهل أحمق ، قد باع دينه بدنياه .. فيا للخيبة والخسران المبين .
عجبتُ لمبتاعِ الضلالة بالهدى وللمشتري دنياه بالدين أعجبُ
وأعجبُ من هذين من باع دينَه بدنيا سِواه فهو من ذين أخيبُ
الصورة البشعة
وقد بالغ الاسلام في تصوير هذا الخلق الذميم واستقذاره بأن شبهه بأكل الجيفة الميتة .. ويالها من صورة بشعة منفّرة ، من تخيلها واطلع عليها ولّى منها فرارا ومُلئ منها رعبا !! قال تعالى ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) ؟! ولهاتين الصورتين تناسق عجيب تعكس إحداهما الأخرى : فكما أن الميت لا يعلم بأكل لحمه فإن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه .. ولأن لحم الميت حرامٌ أكلُه قبيحٌ على النفوس ، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيحة في الأرواح .. وكما يمتنع الانسان السليم – بطبعه – ويأنف من أن يأكل لحم أخيه ميتا ، كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته حيا .. فإنهما في الأهمية والخطر سواء .
ومن المعاني التشاركية بين الصورتين أن ( نتيجة ) الغيبة هو التسمم الاجتماعي بالعيوب المفسدة للعلاقات الاجتماعية والمخربة لبناء المجتمع ونقض أركانه ، وبالمقابل فإن ( نتيجة ) أكل الميتة تسممٌ غذائي ينشر الأدواء في الجسم ويهدم عافيته .. وإن التعامل مع الغيبة وإزالة آثارها يكون بالتوبة ، وإن التعامل مع الميت يكون بالرحمة ، ولعل في قوله تعالى في خاتمة آية الغيبة ( إن الله تواب رحيم ) إشارة الى ذلك .. والله أعلم .
تحذير
فاحذر – أخي الكريم – آفة الغيبة فإن لها دبيبا في المجالس يسرق منك المؤونة والذخيرة في غفلة ، ويخطف أعمالك الصالحة تحت جنح التفكّه والتندّر المذموم .. فتخسر المعادلة ويطيش الميزان ، وتتدهور المعاملة ..واعلم أنها فاكهة مسمومة ، ما باتت في جوف إلا أتلفته ، ولا خالطت بحرا إلا مزجته وأفسدته .. وقد قالها المصطفى لإمنا السيدة عائشة رضي الله عنها تعقيبا على (كلمة) : [ لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ] !!
وها قد أزف رمضان على الرحيل فارأف بنفسك وتلطف بها ، وتمسك بحصيلتك من غلة الخير واضرب عليها طوقا من التحصينات ضد السراق والمتسولين ، وشدد إجراءاتك الأمنية بالأذكار والوعي بأحابيل الاستدراج التي يتقنها المتاجرون بالأطعمة الفاسدة واللحوم النتنة ، ولهم فيها فنون .
الواجبات
- إحرص على مخالطة الصالحين ، وابتعد عن مجلس الغيبة ومصاحبة البطالين ، وتذكر مثل الجليس الصالح و جليس السوء .. فذلك يكفيك .
- إن ( تورطت ) في مجلس غيبة فعليك :
- أن لا تكون مشاركا بالغيبة ، ولو على سبيل المجاملة ، فإن من أسباب انتشار الغيبة مجاملة الأقران ومشاركتهم في ما يخوضون فيه .. وتذكر عقوبة ( وكنا نخوض مع الخائضين ) .
- النهي عن الغيبة ، وعدم السماح بتداولها ، فإن النيل من أعراض الآخرين أشد من الأكل من جيفة حمار ، كما أخبر النبي .
- فإن لم ينتهوا ، فعليك أن تفارق المجلس من التوّ ، [ فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر ، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم ] – كما يقرر القرطبي رحمه الله تعالى .
- ومما يجب عليك في حق أخيك – وقد تعرض للإساءة بغيبته وفي حضورك – أن تذبّ عن عرضه وتدفع الإساءة عنه ، فإن ذلك من أوجب واجبات الإخوة وسلامة الصدر ،وسببا في العتق من النار ، كما في الحديث النبوي [ من ذبّ عن لحم أخيه كان حقا على الله أن يعتقه من النار ] .
- فإن كنت مشاركا في الغيبة فيلزمك :
- التوبة الى الله تعالى ، فإن الغيبة من أكبر الكبائر ، والكبائر مانعة من القبول .
- الثناء على من اغتبته بما فيه في المجالس التي كنت ذكرته فيها بسوء .
- وقد اختلف العلماء في وجوب الاستحلال ، وفيه تفصيل – ليس هذا محله .. فقد يلزمك فتكون في حرج شديد .
- ومما يعينك على الابتعاد عن الغيبة أن تتذكر أن فيك عيوبا أنت أعلم بها ، فانشغل بها عن عيوب غيرك ، وأنك تهدي حسناتك الى الذي تغتابه أو تتحمل أوزاره ، فتكون من المفلسين ..
نسأل الله العفو العافية ..