العـنـف الأسري

0
1377

بقلم: صالح اوبلخير

( عندما كان أبي يضرب أمي ) هكذا عنونها رجل في مقتبل العمر، نال من الحزن ما يكفي واستسلم لقسوة الأيام، لمحته في يوم مخصوص واقفا يتكئ على عمود كهرباء، مطأطأ الرأس، مقوس الظهر، يغطي وجهه بيده اليمنى، بدا لي كأنه يرتعش دنوت منه وسرعان ما اكتشفت رجلا يبكي كطفل صغير، غدا كأخي الصغير عندما أرفض أن يشاهد الرسوم المتحركة طول اليوم فيبدأ باعتماد سلاحه السمج (البكاء) بصوت مرتفع، لكن الرجل لم يكن يفعل كأخي الصغير تماما بل بادر في إخفاء دموعه عن العالمين بشكل خافت ومتطفل، طبعا لم ينجح فقط ضبطته متلبسا في زي الطفولة.

ألقيت عليه السلام لم يستدر نحوي ولم يجب، جلست قربه دون أن أتفوه بحرف لكي لا أزعجه، استغرق الحال عشر دقائق حتى انتهى من البكاء ومسح بظهر يديه الدموع المتأخرة ومسالكها، فجأة استدار نحوي ونطق: إنه الصبا يا أخي، لم أفهم قصده في الوهلة الأولى إلى أن أضاف: عندما كان أبي يضرب أمي، كانت تلك الكلمات كافية لإفساد مهجة القلب وإعلان الشقاء ومشاركته الوضع الموهن، قد تندم أحيانا عند الدخول في شؤون الآخرين لكني حقا في هذه الوضعية مسرور بمحاورة أحد أفراد المجتمع وفهم أوضاعه.

الرجل لم ينل من الحب ما يكفي رغم أن أمه ما بخلت يوما في التعبير عن حبها له، لكن الحنان لا يأتي من طرف واحد فقط فللأب أيضا مكانة هامة، لا تقتصر على الإعانة المادية

كان ذاك الرجل ميسور الحال متزوج بامرأة لديها حقها من الجمال والتربية ولديه ولدان يحبهما على حد ما أخبرني، لكنه لا يستطيع فراق الذكريات الكئيبة، كيف يستطيع وأمه تعنف أمام عينيه؟ كيف ينقده اللهو والسهو وأمه تحت التراب بعصى أبيه؟ طبعا ماتت أمه بارتجاج في المخ بعد أن ضربها زوجها بعصى غليظة أدت بها إلى الرقود في المستشفى شهورا عدة حتى توفتها المنية.

وحسب موقع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، إن واحدة من كل ثلاث نساء في العالم تعرّضن لعنف جسدي أو جنسي على أقل تقدير مرة في العمر، غالبا ما يتم ذلك من قبل الشريك الحميم، مما يفسر سيادة السطوة الذكورية المهزومة، وفي إطار سيكولوجية العنف فإن هذا الأخير يورث كما حال الصفات الأخرى حيث يرثه الفرد جينيا عبر أبويه، والعدواني ينشأ لديه هذا السلوك في طفولته أيضا بفعل عوامل مجتمعية قاهرة كالإقصاء والعنف بشتى أنواعه، كما أقرت المدرسة التحليلية على أن بناء شخصية الفرد يتشكل بمفهوم التقمص حيث يتماهى الطفل بسلوك من حوله خاصة الأبوين

وبما أن الأنا تتبنى جوانب من شخصية الغير فلا ريب أن الطفل سيكون ميالا لتقمص بعض صفات أبويه، إذ وجب عدم إبراز هذه السلوكيات في حضرة الأطفال وإن كان سلوك العنف مرفوضا ومنبوذا لا مودة فيه، وملامح الحل أن يتم العناية بالأشخاص العدوانيين سيكولوجيا من أجل توجيه سلوكياتهم وأفكارهم وعواطفهم، وتأهيلهم اجتماعيا عن طريق السعي لتكيفهم مع المحيط. وبالتأكيد التثبيت في مرحلة من مراحل النمو النفسي الوجداني يعد عاملا أساسيا في بروز هذه الاشكالية خصوصا في المرحلة الشرجية.

بغتة عاد الرجل حاملا كأسين من القهوة، شكرته على لطفه وتبادلنا أطراف الحديث طويلا، حاولت جاهدا إقناعه على نسيان الماضي والمضي قدما، أمه لن تعود يفترض أن يكون حكيما لكي لا يفسد حياة بنيه، وبالفعل تمكنت على الأقل من جعله مقتنعا كما أنه أظهر ابتسامته البريئة في وهلة وما يترجم ارتياحه بقاءه معي ثلاث ساعات، أما عن أبيه فأخبرني على أنه لم يره منذ توفيت أمه ولقد تزوج مرة أخرى واستقر بعيدا.

انقضت ثلاث ساعات رافقها الحوار العاطفي والتحسر وأحيانا الأمل، ودعت الطفل الصغير في قلب الرجل وابتسم قائلا: “إن أمي كانت صبورة” كانت آخر كلماته، والأجدر أن فضولي كان حكيما وقلب الرجل كان رقيقا أما أباه فلا أجد كلمة أشد من عديم الإحساس أطلقها عليه، فما أحوجنا لآباء ينورون دروب الأطفال من أجل ضمان غد أفضل للمجتمعات لتخلوا من العنف والشقاوة لينشعب فيها الود والإخاء، حذا الرجل حذوه وتلفظت لي عيناه البارزتان للتعاسة: كيف يكون أبي بتلك القسوة؟

المصدر: الجزيرة نت

أترك تعليقاً

Please enter your comment!
Please enter your name here