بقلم / الدكتور منير السامرائي
رسالة في رفع الهمة ( 2 )
في المرتقى نحو العلياء نحن نقتفي آثار العمرين الراشدين في رفع الهمة وشحذها لارتقاء القمة .. ففي المشهد السابق كان الفاروق عمر رضي الله عنه يعدّل الصورة : صورة المسلم المنعكسة عن الإيمان في بؤرة الواقع ، فقد كان [ إذا مشى أسرع ، وإذا تكلم أسمع ، وإذا ضرب أوجع ] كما يصفه الواصفون .. فتستعيد الصورة حيويتها وتتوازن مساحاتها اللونية والتعبيرية .. واليوم يأتي الحفيد ليضع النقاط على الحروف في بيان الهمة العالية ، ويصنع للصورة إطارا قشيبا تزدان به بين الصور ..
في الرسالة السابقة تناولنا رفع الهمة من حيث أنها مبدأ من مبادئ صناعة الحياة ، وتحدثنا عن الاستعلاء باعتباره قيمة من قيم الإيمان .. ولعلنا شحذنا الهمم برصيد من المعاني المستوحاة من مواصفات ( الأعلون ) التي يتربع على منصتها المؤمنون .
وفي هذه الرسالة نسعى الى ” تعبئة ” رصيد آخر يديم الصلة الإيمانية بعلو الهمة ، نستلهمه من الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ، الذي اجتمعت فيه ( النفس التواقة ) بعناصرها ومكوناتها ، فكانت مثالا راقيا للإبداع أعجز مَن بعده ، ولكنه يبقى أملا للسالكين وحاديا للسائرين ..
فما هي ” النفس التواقة ” ؟
عرّفنا بها حال صاحبها ، إذ يقول : ( تاقت نفسي الى فاطمة بنت عبدالملك فتزوجتها ، وتاقت الى الإمارة فوليتها ، وتاقت الى الخلافة فأدركتها ، وقد تاقت الآن الى الجنة فأرجو أن أدركها إن شاء الله عز وجل ) .. هي النفس التي لا تركن الى حال واحد جامد ، وإنما تجدد آمالها ، كلما قطعت شوطا في مسيرة الحياة تشوفت الى ما بعدها .. همتها عالية متوثبة حتى تلقى الله .. وحقيقة أشواقها ورغائبها معلقة بذلك الخلود الأخروي ..مالكها آخذ بعنانها نحو النعيم الذي لا ينفد .. يغذ السير، لا يلوي على أحد ..
تشكيل النفس التواقة
تتشكل النفس التواقة من عناصر مهمة يسند بعضها بعضا لتولد من مزيجها الهمة العالية :
أولا – الرؤية الواضحة ( = الطموح ) : وهي المجملة بكلمات الخليفة عمر بن عبدالعزيز- رحمه الله تعالى – في ترتيب طموحاته العالية المتتالية ، فما أن يضع لنفسه مطمحا ساميا فيناله ، حتى يتقدم خطوة أخرى صعدا الى مطمح جديد : الزواج من الأميرة ، ثم الإمارة ، ثم الخلافة .. ثم الدار الآخرة !! فمن أراد أن يمتلك نفسا تواقة فليزجها في مصنع الطموح ، ويرقمها في رقيم الأهداف المتصاعدة ، لا يرضى لها التراجع أو المكوث في المحل طويلا . يقول ابن القيم : [ فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة ، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات .. ] .
ثانيا – الإرادة الصلبة : وهذه تبع لتلك ، فالإرادة قوة نفسية تكتسب صلابتها من الطموحات العزيزة والأهداف النفيسة .. وما لم تكن للمرء ارادة متوثبة تدفعه الى التنافس والمنافسة فلن يحقق ما تتوق إليه نفسه ، بل ستتراجع خطواته وترتبك مساراته .. وغذاء الإرادة الصبر ، فما من أمر ذي بال إلا ويحتاج الى صبر واحتمال ، فبالصبر يدرك المآل وتتحقق الآمال .
ثالثا – القضية الملهمة : لا بد للنفس التواقة ، وهي الجناح الذي يطير به المرء نحو القمة ، من أن تتعلق بقضية تغذيها بالإلهام وتدفعها باتجاه الأهداف الكبيرة .. فإن [ همّك ما أهمّك ] قاعدة ذهبية في شحذ الهمم .. فبقدر الهم يكون الاهتمام ، وكلما كبر الاهتمام واتسع اتسعت إزاءه العزائم وشمخت روافع الانجاز .. أرأيت الى ذلك الشاب الطموح الذي تعلقت نفسه ببشارة المصطفى صلى الله عليه وسلم في فتح القسطنطينية ( فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش ) فلم يهدأ له بال حتى أصبحت المدينة طوع أمره وعاصمة سلطانه ؟
رابعا – العمل الدؤوب : فالطموح رجاء لا بد أن يقارنه عمل ، وإلا فهو أمنية جوفاء ليس لها قرار أو مقدار .. وينبغي أن يكون العمل متناسبا مع الطموح [ على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. ] .. فلما كان طموح ذلك الصحابي ، وهو يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أسألك مرافقتك في الجنة ) وهو رجاء عريض يليق بالنفس التواقة ، وضع النبي صلى الله عليه وسلم أمامه دليل العمل الذي يمهد له الطريق الى مبتغاه ، ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ) ..
وسائل التعزيز :
إن صاحب النفس التواقة لا تتوقف آماله ولا تنتهي طموحاته ، ولا يرضى بالدون مهما كانت العقبات والملمات ، ومهما غلت التضحيات .. ولابد لمسار الاستعلاء من معززات تقويه وتثبته على الطريق .. وهي كل ما يبعث فيك تيار الهمة ويجدد فيك النشاط والاستمرار .. ومنها :
أولا – حسن التوكل على الله : قال تعالى” وتوكل على الله “، فهو أمر شرعي تعبدي ، والتوكل عبودية قلبية نفيسة عمادها حسن الظن بالله تعالى وصدق التعلق بعلمه وقدرته ، وبراءة المرء من حوله الى حول الله وقوته .. وحسن الظن بالله عبادة يغفل عنها الكثيرون وسط عالم تملؤه المخاوف والقلق على المستقبل ، عبادة تمسح على القلوب فتعود راضية مرضية ، مطمئنة الى أن الأمر كله لله وهو على كل شيء قدير ..
ثانيا – التدرج في الأهداف : وهو ما يسهل بلوغ الغايات ، فالنجاحات المتدرجة والمتعاقبة تبعث الهمة وترسخ معاني الصمود لمواجهة العقبات .. ولا ينبغي الاستعجال أو حرق المراحل ، فلكل مرحلة ظروفها التي تتحقق في بوتقتها الأهداف المناسبة .. وانظر الى صاحب النفس التواقة كيف تدرج في أهدافه فكبرت وتعاظمت لتنتهي الى مقعد صدق عن مليك مقتدر .
ثالثا – البيئة الخضراء : فالتواجد في بيئة يتنافس فيها الناشطون تشجع على امتلاك النفس التواقة ، وتزدهر فيها الهمة وتشمخ في أعطافها الآمال .. عناصرها الجو الإيماني والسلوك الرباني ، واحترام الوقت وحسن إدارته ، وتوقد الذهن بالمعرفة ، والفريق الذي يذكرك بالمهمة ويعينك على المطاولة في السباق واختراق الآفاق ..فعليك بمجالسة ذوي الهمم العالية تتأسى بطموحاتهم ، ومطالعة سير الناجحين وتستأنس بنجاحاتهم .. فذلك مما يعزز انتظامك في قوافلهم ..
ما يقتل الهمة :
أولا – الطموح المتراجع : كثير من الناس يقتل همتك وهو يقدم لك نصيحة يحسبها بلسما لراحة البال وسعادة الحال ، فيقول لك [ مدّ رجلك على قدّ لحافك ] ..أي لا تتطلع الى أبعد مما هو بين يديك !! . فيزرع في نفسك طموحا ضئيلا وهما قليلا ..إنه معول لتحطيم النفس التواقة والإجهاز عليها بين جنبيك .. إنها دعوة للرضى بالدون والتوقف عند الأهداف الصغيرة والحدود الحقيرة .. فإياك والأهداف الصغيرة والنظرة القصيرة .. وخذ بالنصحية العمرية [ لا تصغرنّ همتكم ، فإني لم أرَ أقعد عن المكرمات من صغر الهمة ] ..
ثانيا – التسويف :فإنه خدعة النفس العاجزة ومخدر الهمة الخائرة .. فليس لأهدافها موعد تعمل على تحقيقها في مداه ، وكل أيام الأسبوع لديها ( غدا ) ، فينقضي الأسبوع بدون إنجاز يذكر ، وينتهي العمر غارقا في بحر التسويف والتأجيل .. إن أحرف التسويف سيوف لقتل الوقت وإزهاق الحياة .. والوقت رصيد لا يتجدد ، فلا ينبغي أن يتبدد ..رصيد قيمته بالإنجاز تتحدد ، وبالعمل الدؤوب يكبر ويتصعد .. ومن الحماقة أن يخسر المرء أيامه في لا شيء من عمل الدنيا أو الآخرة ..ولك في حديث الفسيلة منار تهتدي به في السعي المثمر وإن طال أمده أو أدركته الساعة .. فإنما هو العطاء ، تلك القيمة الايجابية التي تتأبى على التسويف والتأجيل والتأخير والتعطيل .
ثالثا – معاشرة الكسالى والبطالين : فليس أعدى على الهمة وانتزاعها من النفوس من معاشرة الكسالى والبطالين ، من ذوي الهمم الدنيئة والإرادة المتعلقة بالسفاسف .. إن الكسل مرض انتقالي والبطالة داء معد ، وهما يصنعان بيئة خصبة لقتل الطموح وتبديد العمر في التفاهات .. فمن أراد أن يرتقي في الأسباب فليحذر مصاحبة كل كسول بطال ، ولينأى بنفسه عن الذين لا يحسنون إلا التثاؤب والخلود الى الأرض .. وليكن بينه وبينهم حجاب مستور ..