ارفع رأسك للعلياء

0
1556

بقلم / الدكتور منير السامرائي

رسالة في رفع الهمة ( 1 )

الـمشـهـد :

يمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد برجل يصلي ، حانياً ظهره ، منكسا رأسه ، مطأطأ الى الأرض، لا تكاد ترى عليه حيوية الحياة .. صورة ( موّاتيّة ) أو كأنها الموت .. يستفز المشهد الفاروق فيعلوه بالدرة ، قائلاً : ( ارفع رأسك .. لا تُمٍت علينا ديننا ) وفي مقالة أخرى ( أمتَّ علينا ديننا أماتك الله ) ..

هذه اللفتة العمرية الملهمة ، ترسم لنا صورة الإيمان المفعمة بالحياة .. إن الرجل قد يميت الدين بمظهر الهوان والإستكانة وإن كان في مقام التعبد والصلاة .. إن عمر الفاروق يعلم جيداً أن للعبودية جذراً في القلب في تعظيم الله وتقديره حق قدره ، يملك عليه أقطاره ، ويفرض عليه انكساره .. ولكنه يعلم أيضاً أن الإعتزاز بالانتماء لهذا الدين له شكل إيجابي يتمثل في مظاهر القوة والانتعاش بادية على الوجه وسائر الجسد .. مظاهر تغري الآخرين وتدعوهم لإجابة داعي الله .. لا أن تكون فتنة لهم فيبتعدوا عن الدين بتأثير الصورة الباهتة الذليلة .. صورة الضعف والإنكسار ..

مـنـظـومـة الاسـتـعـلاء

اقرأ معي بقلب واع وبصيرة نافذة : ” وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ”  .. إنها منظومة متكاملة في غرس قيمة الاستعلاء الإيماني في النفوس ، مفادها :

أولا – أن تنفي عن نفسك وتطهرها من آفتين فتاكتين :

  • الوهن : لتتزود بأصول الشجاعة والحماسة والسعي للإنجاز الحضاري .
  • الحزن : لتتخلى عن منابت التراجع والتخلف والتعلق بما فات .

فالوهن في الأبدان ، والحزن في القلب .. الوهن خور العزيمة وضعف الإرادة ، والحزن احتباس القلب بين جدران الأسى والحسرة على مصاب مضى .. وهما حالتان تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتب عليهما الاستسلام وترك المقاومة .. والمقصود النهي عن سببهما والاسترسال مع تداعياتها .. لذا تبدأ المنظومة ببث روح الاستعداد القلبي والبدني والتخلص من ( مخلفاتهما ) في بناء الشخصية العلوية ، ثم تنطلق الى المرحلة الأخرى .. مرحلة الصعود و الإرتقاء ..

ثانيا – ” وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ” ..

من هذا المنبع يتم ضخ الشعور الطاغي والطموح العالي للإرتقاء الإيماني في أعماقك فيوصلك الى المقام الأعلى .. وهي جملة حالية ، المقصود بها البشارة والتسلية وإدخال الطمأنينة على القلوب الواجفة .. فهي تخاطب المؤمنين بصريح العبارة: إذا كان حالكم ( أنتم الأعلون ) فعلامَ الوهن وعلامَ الحزن ؟؟

وتأمل معي – في مقاربة أخرى – هذا الموقف : نبي الله موسى عليه السلام أمام السحرة الذين أتوا بسحر عظيم ، ” فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ”  ، فما الجرعة المنشطة التي كبحت جماح الخوف من نفسه ؟؟ إنها ” قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى “. فكانت الوصفة العجيبة التي أبطلت السحر وقهرت كل سحار عليم ، ” فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا ”  .

ثالثا – ” إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ” ..

جملة شرطية ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أي [ إن كنتم مؤمنين حقاً ، فلا تهنوا ولا تحزنوا ]  ، والتعليق بالشرط المراد منه التهييج للنفوس حتى يكون تمسكها بالإيمان أشد وأقوى .. فالإيمان يوجب قوة القلب وصدق العزيمة والصمود في وجه الأعداء والإصرار على مجاهدتهم حتى تكون كلمة الله هي العليا ..

يقول صاحب الظلال- رحمه الله تعالى – [ عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده ، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض خلقه .. ومنهجكم أعلى ، فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله ، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله . ودوركم أعلى ، فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها ، وهم شاردون عن النهج ، ضالون عن الطريق ، ومكانكم في الأرض أعلى ، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها ، وهم الى الفناء والنسيان سائرون .. فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا ، فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا ، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص ] .

( الأعـلـى  ) قـيـمـة ايـمـانـيـة ..

إن الحض على معالي الأمور والحث على طلبها قيمة ايمانية أصيلة ، ترتكز على مبادئ جلية وترسخها ممارسات عملية .. فمن الإيمان بالله تعالى توحيده في صفاته ، فله الوصف الأعلى في كل ما يوصف به ” وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ “..، فيأخذك هذا الوصف الى آفاق سامية بين الجمال والجلال والكمال ، ليضفي عليك أنواراً ايمانية ، تقودك الى التسبيح والتقديس للرب الجليل ، بمقتضى الأمر والتوجيه ” سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى “.. في سياق علوي متصل ينتقل بك الى مراتب الإخلاص في العمل والذي لا يكون من المؤمن ” إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى “.. فكأنك في مهرجان المعالي ، تتألق فيه المعاني ، وتتشوف النفوس الى بغية أسمى ، إنها ” وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ”  .. ولهذا أنت مأمور إذا سألت الله أن تسأله الفردوس الأعلى ..

ولـكـن .. إيـاك والـتـعالـي ..

بين طلب المعالي والجنوح الى التعالي ، برزخ عميق ، فهما لا يلتقيان في بوتقة الايمان ..فالأول يتبدى من علو الهمة وصلابة الإرادة وسمو الغاية .. والثاني يتغذى من آفات النفوس ومنابت الأخلاق السيئة .. فـ ( الكبر بطر الحق و غمط الناس ), وهو مما ينبغي للمؤمن أن يتطهر منه بماء التقوى وصابون التسامح والفضائل ، فلا يكون في تعامله مع المؤمنين إلا دليلا على الوصف القرآني ” أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ” ، ” رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ” .

بـيـن الـحـقـيـقـة والـمظـهـر :

  ( الأعلون ) من مراتب المؤمنين التي ينبغي لهم التمسك بها وإظهارها .. وقد وردت في الكتاب في موضعين يرشحان في موقفين للمؤمنين مع أعداء الله .. ففي الأول كان في أعقاب غزوة أحد ، وما حلّ بالمؤمنين فيها من جروح وقروح ، فنهاهم الله أن يهنوا ويحزنوا ، فهم الأعلون بإيمانهم .. وفي الثاني ينهاهم أن يهنوا ويدعوا الى مسالمة الكافرين من موقف الضعف ، فهم الأعلون بمعية الله لهم ” فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ “.

   فلا يليق بالمؤمنين إلا هذه المرتبة ، ولا ينبغي لهم إلا أن تتجسد فيهم شعوراً وسلوكاً .. حقيقةً ومظهراً ، سواء بسواء .. وإن المراء في إظهار الورع والتخشع كالمِراء في الدين والتكبر .. والذين يحسبون أن الزهد ضعف والنسك تماوت ، فإذا تحدث أحدهم خشع بصوته ، وإذا مشى أحنى قامته ، وإذا قام في الصلاة نكس رأسه وكتفيه ، فإن ذلك مظنة المراء والتكلف والتظاهر .. وهو على غير هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد كان [ إذا مشى كأنما ينحط من صبب وكأنما الأرض تطوى له ] .. وهذا لا ينافي وصف المؤمنين أنهم ” يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ” .. فهو المشي بسكينة ووقار بعيدا عن التكبر والخيلاء .. قال ابن كثير : [ أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار ] ..

نـصـيـبـك الأوفـى :

وأنت أخي الكريم ، لك من ذلك النصيب الأوفى والقِدح المُعلّى .. فأنت جدير بأن ترقى على منابر من نور الى عليين .. وقد استوثقت من أمرك وحقيقة فكرك ، فلا يستفزنك المغرضون ، ولا يستخفنك المبطلون والمطبّلون .. [ فما ضرّ السحابَ نبحُ الكلاب ] ..وقَمِن بك أن تدرك الغايات السامقة وتتناول الأهداف الباسقة ، وهذا يقتضي منك أن تأخذ الكتاب بقوة ، وترفع الراية خفاقة فوق كل ربوة .. ولا يرد جولة اللئام إلا صولة الاقتحام ، مستمداً من ذلك النسب العالي الذي ينتظم في سلكه الأبطال ، يتقدمهم أبو دجانة رضي الله عنه متبختراً في موضع يحب الله فيه التبختر ، منشداً مع صاحب البردة ترتيل العلاء والشمم :

شُمُّ العَرانين أبطالٌ ، لبُوسُهمُ                 من نَسجِ داود ، في الهَيجا سَرابيلُ

أجل .. أنت مطالب بأن تتزين بمظاهر الفخر والإعتزاز بهويتك المتميزة ، وأن تتعطر بأريج الانتماء الى الشجرة الطيبة المباركة ، وأن تتفجر في أعماقك عيون الاستعلاء الإيماني ، فتفيض على جوارحك أردية الزهو والألق ، وتفرض على الساحة واقعاً مبشراً بالمستقبل لهذا الدين ..

” وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ “

 

أترك تعليقاً

Please enter your comment!
Please enter your name here