الطريق والحقيقة

0
1182

أعجب ممن يهتمون بوصف الطريق، فيمدحون يسرها وحسنها ويذمون صعوبتها وشدتها، فالطريق لا وصف لها إلا بمنتهاها وغاياتها، فمن كانت غاية طريقه لأمر محبوب يسره فلن يشعر أبدا بقيمة الطريق حتى لو كان مرّا ووعراً، ومن كانت نهاية طريقه لأمر كريه إلى نفسه لم يكن ليسْر الطريق وجماله موضع نظر لديه.

وما أعذب طريق الهجرة على شدته على معظم الصحابة رضي الله عنهم، فأبو سلمة لا يبالي بترك أهله متفرقين بين قبائل قريش وينطلق مسرعا نحو المدينة، وزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسقط حملها وتقع على صخرة عظيمة ولا تبالي إذ تنطلق للمدينة التي فيها أبوها وقرة عينها صلى الله عليه وسلم.

وسلمان ينسى العبودية ولا يشعر بما فيها من أذى ثقة بأنه ذاهب للبلد الذي فيها نبي آخر الزمان الذي سيتبعه مصدقا لمن قبله، وأم ايمن بركة تهاجر وحدها في حر الشمس وهجير الصيف ووحشة الطريق فلا تأبه، وتصوم تطوعا في هذا الطريق المهلك ولا تملك الماء لتشرب، فتدركها العناية الإلهية ويكرمها من لجأت إلى بابه فيدلى لها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض فتشرب حتى تروى ولا يصبها عطش بعد ذلك أبدا.

وما أعجب الطريق الذي سلكه قاتل المائة نفس، الذي تاقت نفسه للتوبة فانطلق تاركا صحبته وموطن أهله وقرابته بل وموضع نفوذه وسطوته ليرحل إلى قوم يعبدون الله فيعبد الله معهم وهو لا يعرفه أحد فيموت في سيره ويتجه بصدره للأرض التي يحن إليها فتنجيه تلك الرغبة التي اصطحبها في أخريات لحظات حياته.

والدنيا كلها بكل ما فيها طريق، فرحلة الحياة ليست سوى طريق يعقبه وصول وغاية لبلوغ مأمول، فليس لحسنها وزينتها وزخرفها قيمة في الحالين، فإذا كانت عاقبة هذا الحسن النار سينساها العاصي من أول غمسة فيها حتى لو كان أنعم أهل الأرض، وإذا كانت عاقبة هذا الحسن الجنة أدرك المؤمن أنه كان فيما ظن من حسنها محبوسا فيها مضيقا عليه، فموضع سوطه خير من الدنيا وما فيها.

وكذلك ليس لضيقها وشدتها وعنائها قيمة تذكر أيضا في الحالين، فإذا كانت عاقبة تلك الشدة الجنة نسي المؤمن ما عاناه فيها حتى لو كان أبأس أهل الأرض لمجرد أول غمسة فيها، وإذا كان المرء من أهل النار أدرك أن كل ما عاناه في الدنيا لا يذكر بجوار لحظة واحدة في النار حينما يطوف بين النار وبين الحميم ويتمنى فيها فقط أن يخفف الله عنه العذاب ولو ليوم واحد.

ولعل أصعب طريق سيسلكه آدمي من أهل التوحيد هو طريق الرجل الذي روت السنة أنه نال قسطا من العذاب في نار جهنم وكان آخر من يخرج منها بعد أن قشبه ريحها وأحرقه ذكاؤها فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة فيكون منتهى رجائه ودعائه ” رب اصرف وجهي عن النار”، حتى إذا صرف عنها حمد الله وقال ” تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين “، حتى إذا أدخل الجنة ونال عشرة أمثال الدنيا فرح ونسى ذلك الطريق المؤلم الذي احترق فيه فؤاده وجسده.

والمؤمن يحب الطريق ويستعذب آلامه إن كانت في مرضاة ربه حتى إذا لاحت بشائرها نادى كما رفع بلال صوته ناهيا امرأته عن قول ياويلاه فقال بل وافرحاه غدا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه، أو يقول مثلما قال حرام بن ملحان عند طعنه بالحربة فنضح الدم على وجهه ورأسه ثم قال: “فزت ورب الكعبة”.

 

 

المصدر: موقع المسلم

 

أترك تعليقاً

Please enter your comment!
Please enter your name here