البناء الفكري

0
2031

بقلم: فائق الكبيسي

خلق الله الإنسان بأبهى صورة وأحسن تقويم، وكرّمَه على سائر المخلوقات وفضّله على كثير ممّن خلق تفضيلًا، فوهبَهُ العقل وجعله مناط التكليف، وفرَض حفظه وعدّه إحدى الضروريات الخمس (حفظ الدين، وحفظ النّفس، وحفظ النّسل، وحفظ المال، وحفظ العقل).

فحرّم الخمرَ وكلَّ المسكرات والمخدرات حفاظًا للعقل ولإنسانية الإنسان، فضلًا عن الأضرار الدينية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والصحية، ودعا الإنسان إلى تسخير العقل في التفكّر بخلقه والتدبّر بمكنونات الكون وأسراره؛ فجاءت الآيات والأحاديث تدعو وتحث على ذلك؛ ليعتبر بما في هذا الكون من آيات دالة على قدرة الخالق سبحانه، فيزداد إيمانه ويتجذر يقينه وتتعمق رسالته:

” قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين”

“إن في خلق السموات والأرض… لأياتٍ لقوم يعقلون”

“أفلا تتذكرون”

“لأيات لقوم يتفكرون”

وغيرها كثير من الآيات التي تدل على احترام العقل وتحثه على النظر والتفكر والتدبر.

أمّا الأحاديث والآثار التي تبين مكانة العقل ومنزلة الفكر والنظر فهي كثيرة، منها:

قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو مسعود الأنصاري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: ” استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام  والنُّهى، ثمّ الذين يلونهم”. رواه مسلم. وأولو الأحلام والنهى هم العقلاء، وهذا مدح للعقل وأهله.

وقوله صلى الله فيما يرويه ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشجّ عبد القيس: ” إنّ فيك خصلتين يحبّهما الله: الحلم والأناة ” رواه مسلم. والحلم يُطلق ويُراد به العقل، قال الإمام النووي: الحلم هو العقل، وأمّا الأناة فهي التثبّت وترك العجلة. صحيح مسلم بشرح النووي (١٨٩/١).

وعن أبي الدّرداء – رضي الله عنه – قال: (( تفكر ساعة خير من قيام ليلة )) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (١٠٦/١) برقم ١١٨.

وغير ذلك كثير مما يبين ان الاسلام أعطى منزلة عالية للعقل والفهم والتفكر .

ولمّا كان العقل هو أداة الفهم والفكر والإدراك والتمييز ومناط التكليف، فقد أولاه الإسلام هذه المكانة؛ لكونه الأداة في بناء فكر الإنسان، وكل بناء يكون بالتراكم، فدعا إلى استخدام العقل بالتفكر والنظر ليبني تصوره عن الله والكون والانسان، وجعل له مدًى محدّدًا لا يتعداه؛ لانه مع كل هذا يبقى العقل البشري قاصرًا عن ادراك كنه الكثير من المخلوقات وحقيقتها، فوازنه وضبَطَهُ بالوحي، فصار عقل الإنسان وفكره ونظره وتفسيره منضبطًا بالوحي، فهو ما بين العقل والنقل.

كما أنّ الإسلام ذمّ الجمود والتقليد الأعمى؛ لأنّ ذلك فيه تعطيل للعقل وتبديد له وحرفه عن غير ما  اراده الله للعقل؛ فنتج عن ذلك اتباع الغرب الكافر في أفكاره وعاداته وتقاليده التي تتقاطع وتتعارض  مع منهج الاسلام وتعاليمه وعقيدته؛ فقال تعالى: ” وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا  أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا  لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ”. (البقرة/١٧٠-١٧١).

فالتقليد هو رأس مالهم، وهو ديدنهم ودينهم، وهو السند الذي يركنون إليه في تقليد آبائهم، فأي جمود هذا وأي تقليد؟ ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود، صورة البهيمة  السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا يعني، بل هم أضل من هذه البهيمة، فالبهيمة ترى وتسمع وتصيح، وهم صم بكم عمي.

منهج الاسلام في بناء فكر الإنسان شامل ومتوازن ومنضبط: شامل ليبني تصوره عن خالقه سبحانه وعن الكون الفسيح وعن ذاته كإنسان خلقه الله ليكون خليفته في أرضه. ومتوازن فلم يعوّل على العقل وحده، بل جعل العقل يسير متوازيًا جنبًا إلى جنب مع الروح وبناء القيم؛ لذا أول ما نزل من القرآن (( اقرأ )) ثم قوله تعالى: ” يا أيها المزمّل. قم الليل الا قليلا “، فاقرأ  تبني فكره، وقيام الليل يبني روحه، بعد ذلك نزل قوله تعالى: ” يا أيها المدثر. قم فأنذر”،  ليتحرك ويدعو ويبلغ هذا الدين بعد بناء الفكر والروح، وهذا هو منهج الإسلام في بناء الانسان وتكامل شخصيته:

فكر + روح + دعوة ( حركة وتبليغ ) = مسلم على خطى النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنضبط فلم يترك الاسلام للعقل ان يبني تصوراته وعقيدته عن الغيب كيفما يشاء بناءً على ما  يتوصل اليه عقله وخياله، بل ضبطه بالوحي ( النقل )؛ لانه لا يعلم الغيب الا الله وحده.

ومن هنا ندرك ان بناء العقل الإنساني وتطوير فكره لينطلق في عمارة الأرض وازدهار الدنيا وصناعة الحياة بالمعاني والقيم الايمانية، فالحياة ميدان ومسرح؛ فان لم نملأها بقيم الحق ومعاني الايمان فسيملؤها غيرنا بالكفر والباطل.

أترك تعليقاً

Please enter your comment!
Please enter your name here