المـداومة على التغــيير

0
1478

شريف محمد جابر

من أشد المشاكل التي تواجهنا عندما نرغب بتغيير أنفسنا للأفضل في مختلف المستويات (طلب علم، عبادة، رياضة) أنّنا نجد صعوبة في المداومة على الممارسات التي تؤدي إلى هذا التغيير، فهناك العديد من الصوارف عنها، يقودها الشيطان وهوى النفس.

من هذه الصوارف الاسترسال في الأحلام وتخيّل لحظة ما بعد التغيير والإغراق في ذلك. والتفكير في المستقبل و”ما ينبغي أن يكون” جيّد كنوع من تحديد الهدف ولشحذ الهمم، ولكن الاسترسال دون وضع خطة الممارسة ومباشرتها ومجاهدة النفس للحفاظ عليها؛ هو مخدّر من الوهم سيساهم في صرفنا عن ممارسة فعل التغيير، والاكتفاء بالأحلام الجميلة.

ومن هذه الصوارف خدعة “التبرير” الشيطانية، وهي تحدث عندما يتم إهمال الممارسة الدائمة لفعل التغيير، حينها يبرز الشيطان بثوب المشفق، يربّت على أكتافنا ويختلق لنا الأعذار بحرفية تامة: “لم أدرس لأنّي كنت مرهقا.. كان لديّ صداعٌ رهيب.. مشغول بهموم الأمة ولا توجد نفسية جيدة لممارسة هذا الفعل” وغيرها من التسويغات الشيطانية المريحة، والتي لا تصبّ إلا في فساد الفعل التغييري وصولا إلى هدمه، وصورتها الحقيقية شيطان يلفّ الحبال حولك ويشدّك للأسفل! أما صورتها النفسية فهي “الرضا عن الذات”، فمتى كنت راضيا عن نفسك لم يعد لفعل التغيير أي حاجة، لأنّ منطلق التغيير هو عدم الرضا عن الحال والطموح إلى تغييره.

حبال الشيطان جاهزة دائمًا للإغراق في اليأس، فهي عبارة عن خليط من “عدم الرضا عن النفس” و”اليأس من التغيير”. وهو خليط شيطاني له نفس الأهداف الشيطانية لأسلوب “التسويغ”

ولأنّ الشيطان محترف في ابتداع أساليب الغواية، ولأنّ هدفه الدائم هو صرفك عن كل ما يصبّ في مصلحتك في الدنيا والآخرة؛ فإنّه يمارس في مرحلة أخرى أسلوبا أشدّ في الخبث، وأعني بذلك مرحلة “الإحباط”، وهي معاكِسة لمرحلة “التبرير”، فأنت هنا لست راضيا عن نفسك، ولكنك في المقابل لا تندفع لتغيير نفسك، بل تغرق في أوحال الإحباط وإنكار الذات واليأس من التغيير.

وحتى لا نلوم الشيطان وحده، علينا أن نتذكّر نفسنا التي بين جنبينا، ومساهمتها الحثيثة في صرف الإنسان عما يصلح دنياه وآخرته. جاء في صحيح البخاري عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ طرقَهُ وفاطمةَ عليها السلامُ بنتَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال لهمْ: “ألا تُصلُّونَ”. فقال عليٌّ: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنما أنفسنا بيدِ اللهِ، فإذا شاء أن يبعثَنا بعثَنا. فانصرف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حين قال لهُ ذلك، ولم يرجع إليهِ شيئًا، ثم سمعهُ وهو مُدبرٌ، يضرب فخِذَهٌ، وهو يقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}”.

لم يرضَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك “التسويغ” الذي خطر لعليّ رضي الله عنه، وعدّه من “الجدل” المذموم، فقد كان حريّا بمن يُنصح بما يصلح دنياه وآخرته أن يستجيب لذلك فورا، وألا يبحث عن حجّة يحاول من خلالها “تسويغ” ما هو عليه! وانظروا لو كان كلّ منّا يستخدم هذا التسويغ في صلاة الفجر، فيرضى أن ينام دون الأخذ بالأسباب (من نوم باكر وتشغيل المنبّهات والوضوء قبل النوم والدعاء وقراءة القرآن)، ولا يلوم نفسه إن “راحت عليه نومة”، بل ويقول “إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا”! هل سيصبّ هذا التسويغ في تغيير حاله البائس المتمثّل بتضييع صلاة الفجر؟

ثم تأتي هذه الوصفة النبوية لتكشف عن أحد أهم أركان فعل التغيير، وهو “المداومة”. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: “أَحَبُّ الأعمالِ إلى الله تعالى أدومُها وإنْ قلَّ”. قال (أي القاسم بن محمد): وكانت عائشةُ إذا عملَتِ العملَ لَزِمَتْه”. وهذا الحديث يشير إلى مشكلة يواجهها كلّ من يسعى إلى ممارسة أي نوع من التغيير في حياته. فكم مرّة عزمتَ على ممارسة شيء فقمتَ بذلك يوما أو يومين أو أسبوعا، ثم وجدت نفسك تضيع هذا العمل وتلهو عنه؟ وإنّك لتجد الحماسة من نفسك حين تستغرق في غمرة الشغف بالفعل لساعة أو ساعتين في كل مرة، فتطمئنّ إلى شغفك هذا وحبّك. ولكن ماذا يحدث عندما تضمُر الرغبة ويتغيّر المزاج؟ ستنصرف عن الفعل وتهمله!

ولذلك كانت المداومة على الفعل وإنْ قلّ أحبّ إلى الله من الإطالة في المرة الواحدة؛ وذلك لأنّ الإطالة في المرة الواحدة قد تكون لحظية، وقد تكون نابعة عن موافقة رغبة النفس وشغفها، أمّا المداومة فهي تحتاج قدرًا كبيرًا من مجاهدة النفس و”التزامها” (كما جاء عن عائشة)، أي إنّها بحاجة إلى قدر كبير من الصبر ومقاومة كسل النفس وخنوعها واطمئنانها إلى الدعة. ومن هنا تكون كلمة السرّ في الفعل التغييري هي “المداومة”، وهي وصفة نبوية ربّانية عظيمة لا يفلح من تركها.

 

المصدر: الجزيرة نت

 

أترك تعليقاً

Please enter your comment!
Please enter your name here