فريدة العبيدلي
كثيراً ما تُطالعنا وسائل الإعلام المُختلفة وشبكات التواصل الاجتماعيّ بقصص نجاحات لمشاهير في عالم المال والأعمال والسياسة والاقتصاد والرياضة والفن، ممن نشأوا في بيئات فقيرة، ويعمل آباؤهم في مهن بسيطة محدودة الدخل كعمّال النظافة والحراسة وغيرها.
ويذكر هؤلاء المشاهير ماضيهم ونشأتهم الأولى بفخر واعتزاز، كيف كانوا وكيف أصبحوا، لا يخجلون من ذكر نوعيّة أعمال آبائهم وواقع معيشتهم الأولى التي ترعرعوا في ظلها قبل أن يضعوا أقدامهم على طريق المجد والمال والشهرة خلاف ما نراه في مجتمعاتنا الخليجيّة من سلوكيات متناقضة صاحبت النقلة الحضاريّة السريعة التي مرّت بها مجتمعاتنا من مرحلة بساطة العيش وجيل ما قبل النفط وبداية اكتشافه إلى مرحلة ما بعده من رفاهية عيش وجيل الوفرة المادية التي جعلت البعض يتنكرون لنشأتهم الأولى ويخجلون من ذكر ماضيهم وبدايات حياتهم الأولى وأعمال آبائهم البسيطة، ويتهرّبون من الحديث عنها أو يحيكون القصص التي تصوّرهم وكأنهم وُلدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب .
رغم أن مجتمعاتنا الخليجية عامة كانت تسودها حياة العيش البسيطة حيث كان معظم الناس يعملون إما في الرعي أو الغوص لاستخراج اللؤلؤ أو التجارة وبعض أنواع الزراعة، وفي بدايات اكتشاف البترول اشتغل المواطنون في الأعمال البسيطة لدى شركات البترول ولكن نادراً ما يذكر شخص ناجح أن أباه كان يوماً ما عاملاً أو مراسلاً أو حارساً أو سائقاً في هذه الشركات .
لقد عايشنا مواقف ونماذج متعدّدة في واقع الحياة يخجل الأبناء فيها من ذكر مهن آبائهم البسيطة، ويستحضرني الآن خجل معلمة من عمل أمها التي كانت “فراشة” في المدرسة المجاورة لمدرستنا، وعندما كانت تفاجئها معلمة فضوليّة بذلك تتجاهل الرد أو تعلق بأن الأمر لا يعدو عن كونه تشابه أسماء، واقع مأساوي نعيشه في مجتمعاتنا وصل لحد التركيز على مهنة الآباء السابقة رغم انقراضها، فعندما يتقدّم شاب لخطبة فتاة يسارع من حولهم لإخبارهم بأن أمه كانت تشتغل “فراشة مدرسة” أو أن أباه كان “ناطوراً” مع تجاهل مواصفات أخلاق الشخص، وتعليمه ومهنته، نعيش واقعاً لا تقدّر فيه قيمة العمل الشريف البسيط مهما كان نوعه أو مردوده المادي، ما يُشكل معول هدم في مجتمعاتنا النامية التي هي في أشدّ الحاجة لعمل كل فرد فيها .
الوطن يحتاج المواطن الذي يعمل في الوظائف المهنيّة على اختلافها كما يحتاج الطبيب والمهندس والمعلم والمدير وغيرهم، مجتمعاتنا في حاجة ماسّة لغرس قيم تقدير العمل واحترامه في نفوس أبنائنا وتربيتهم على أن العمل البسيط مهما كان نوعه لا ينتقص من قدر صاحبه وإنما يزيد من احترام الآخرين له، فالأنبياء جميعهم كانوا يعملون في مهن بسيطة كالرعي والزراعة والنجارة. الخلاصة: تعزيز قيم احترام العمل المهني وتقديره في نفوس الناشئة لن يتأتّى إلا من خلال المناهج التربويّة التعليميّة، والتربية الأسريّة، وإنشاء مراكز التدريب المهني، وتسليط الضوء على تجارب عمل النماذج الوطنيّة المشهورة الناجحة في وسائل الإعلام المُختلفة للارتقاء بثقافة المجتمع.
المصدر: صحيفة الراية